المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: -
[بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل، وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعــد:
فإنه لما كَانَ علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إِلَى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه] إهـ.

الشرح:
بدأ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتابه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي كَانَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما صح عنه- يستفتح بها، وهذه سنة ينبغي لنا أن نقتدي بها جميعاً.
وكل خطبة لا يذكر فيها الشهادة أو لا يتشهد فيها، فهي كاليد الجذماء، كما جَاءَ في الحديث. وكذلك في الحديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع} أو (فهو أبتر) وإن كَانَ في الحديث ضعف من حيث الإسناد، ولكن هو ثابت من فعل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه ومكاتباته إِلَى الملوك وغيرهم.
فالبداية بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ، أو بالْحَمْدُ لِلَّهِ، أو ببسم الله، أو بخطبة الحاجة، هي سنة ثابتة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينبغي العدول عنها، وهكذا بدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.

ثُمَّ قال بعد ذلك: "أما بعد"، وهذه أيضاً سنة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه وكتبه، كَانَ بعد أن يسمي الله أو يحمد الله، أو يثني عَلَى الله تَعَالَى بما هو له أهل، يقول: أما بعد، ثُمَّ يبدأ في الموضوع الذي يريده.
وعلم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف الشيء من شرف موضوعه، وموضوع علم التوحيد هو معرفة الله وصفاته، وما ينبغي لوجهه من التعظيم والثناء، وما ينبغي لحقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ من العبادة وهو حقه عَلَى العباد.
وبذلك نستنتج قضية مهمة لا ينبغي أن نفوتها -وإن كانت معلومة ومفهومة لدى الجميع- وهي التشكيك في تعليم التوحيد والعقيدة وأصول الدين، والقول بأن هذه الأمور لا داعي لها.
فيُردُّ عليهم بمثل ما افتتح المصنف، أن شرف العلم بشرف المعلوم، فمعرفة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هي الفقه الأكبر، وهي أعظم العلوم والغايات، وأشرف ما يسعى إليه المؤمنون جميعاً، فلا يجوز لأحد أن يُهوِّنَ من أمرها أو يشكك فيها، أو يقول: ليس هناك داعٍ إِلَى معرفة توحيد الأسماء والصفات!!
لو قال رجل: ليس هناك داع أن يعلم الناس الصلاة والزكاة، لأنكر عليه جميع الْمُسْلِمِينَ. فكيف بالتوحيد! وهو أعظم؛ لأن معرفة الله تَعَالَى في ذاته أعظم من معرفة حقه، فاعتقادنا فيه أعظم من فعلنا له، وكما سيأتي من كلام المُصنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وهو يقول: إن القُرْآن كله توحيد، فأفضل ما في القُرْآن هو ما يتعلق بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.

والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمضى الفترة الطويلة في تعليم التوحيد، ثُمَّ لم يزل في المدينة تنزل عليه أحكام الفروع مرتبطة بالعقيدة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:183].
وهكذا الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ شرع لتكون كلمة الله هي العليا، ومن أوائل ما شرع وفرض هو قتال أهل الكتاب الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، والذين قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم.
فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورةِ التوبة بقتالهم، وهو واجب محتم كقتال الْمُشْرِكِينَ المعطلين، فمن عرف الله ووصفه بغير صفته، أو جعل له خدناً أو صاحبةً أو ولداً، أو أشرك في صفاته في أي نوع من أنواع الشرك، فإنه يقاتل كما يقاتل المشرك المعطل.


  1. الحديث عن كتاب الفقه الأكبر

    وهنا ينبغي لنا أن نتجه إِلَى قضية ثبوت كتاب الفقه الأكبر.
    الواقع أن الإمام أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ نُسِبَتْ إليهِ بعضُ الكتبِ التي لم يكتبها ولم يؤلفها، وإنما كتبها عَلَى ما يبدو أحد أئمة الحنفية المسمى أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله، ونسبها إِلَى الإمام أبي حنيفة.
    وفيها حق كثير لاشك فيه، لكن يهمنا أن نعرف أنها ليست لـأبي حنيفة، فرسالة العالم والمتعلم، ورسالة الفقه الأكبر وإن كَانَ أكثرها صحيح، وشرحت عَلَى أنها للإمام أبي حنيفة، لكنها من الناحية العلمية توثيقاً للكتاب ليست لـأبي حنيفة.
    والحكم نفسه ضعيف؛ بل هو متهم بالوضع.
    ولأن المؤلف حنفي -والحنفية هم أكثر الْمُسْلِمِينَ في ذلك العصر بل هم الدولة- انطلق المُصنِّف في شرحه عَلَى أن هَؤُلاءِ الحنفية يُثبتون ويعتقدون أن الفقه الأكبر صحيح وثابت عن أبي حنيفة، وربما يقولون: إن الحكَم -وهو أبو مطيع البلخي- ثقة.

    ونقول لهم: إذا انتسبتم إِلَى هذا الإمام فانظروا ماذا قال، ولا تعتقدوا عقائد بدعية مخالفة لمذهبه حدثت في القرن الرابع عَلَى يد أبي منصور الماتريدي، ثُمَّ عَلَى يد النسفي وغيرهم من الذين أحدثوا في مذهب الحنفية ما ليس منه، في مجال العقيدة.
  2. لا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومعرفته

    وأما قول المُصنِّفِ: وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة وضرورتهم... إِلَى آخر العبارة.
    هذه العبارة هي عنوان باب عقده الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في إغاثة اللهفان: أنه لا حياة للقلب ولا طمأنينة ولا نعيم إلا أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو معبوده وإلهه، واختصر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الأسطر من ذلك الكتاب.
  3. مشكلة الإنسان المعاصرة

    والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطراباً وحيرة وتفككاً وضياعاً، ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع -سواء كَانَ هذا الواقع حقاً أو باطلاً عقيدة أو سلوكاً- بالتعبير الدقيق هم أصحاب الإحساس العميق الدقيق، كالشعراء والأدباء وأمثالهم.
    فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه لا حياة للإنسان، ولا سعادة ولا هناء إلا بأن يعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!!
    عبروا عن ذلك بما يدل عَلَى الضياع والفراغ والحيرة، ويؤسفني جداً أن أقول: إن بعض أدباء الْمُسْلِمِينَ يسلكون وينتهجون منهج أُولَئِكَ الأدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيراً من الدواوين الشعرية ضائعة تماماً.
    فمثلاً شاعر نصراني يقول:
    جئت لا أدري مـن أين؟!             ولكـني أتيت
    وغيره من الشعراء يكتب ديواناً كاملاً تقرأ فيه الحيرة والضياع والألم، فيتألم من شيء لا يدري ما هو.
    ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأنه لو عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصلى وقرأ كتاب الله، لما كَانَ في شعراء الْمُسْلِمِينَ من يقول:
    ومضى عمري             ولا أعرف دربي أبداً
    أما نَحْنُ والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير، ونعرف أن مردنا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع، فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأطعناه فمصيرنا إِلَى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن عصيناه وتعدينا حدوده فمصيرنا إِلَى الشقاء وضيق الدنيا، وإلى النَّار في الآخرة أجارنا الله وإياكم، لكن الحيارى لا يدركون ذلك.
    وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثراً في فرنسا يقول: "حيرة الإِنسَان المعاصرة"!!، طبعاً هم يعممون الإِنسَان لأنهم يظنون أن الْمُسْلِمِينَ حيارى، ونحن في الحقيقة حيارى؛ لأن القليل منّا من يمثل حقيقة الإسلام، فيظنون أننا مثلهم عَلَى هامش الأمم حيارى.

    يقول: (ومشكلة الإِنسَان المعاصِرة قضية واحدة، وهي أنه يبحث عن سيد، يبحث عن إله).
    فيحدد أول مرة سيداً عاماً لكنه في الأخير يقول: "يبحث عن إله" وهي مشكلة الإِنسَان المعاصرة، فالدمار والحروب المستمرة، والقنابل الذرية، والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية، وتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، هو الذي يلجئ أهل الإحساس وأهل الشعر وأهل النظرات البعيدة إِلَى المخدرات والانتحار، يتخلصون به من رعب المستقبل كما يسمونه، ولذلك نجد أرقى بلاد العالم في الحضارات المادية، وفي الشوارع الفسيحة، والعمارات الضخمة، والترف المادي في معدل المعيشة، هي أكثر بلاد العالم نسبة في الانتحار، لأنه كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: ( لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها).
    والله لا يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ولا يجد السعادة مهما أخذ من الدنيا وجمع من حطامها، بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
  4. كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى

    قَالَ المُصنِّفُُ رحمه الله تعالى:
    [ومن المُحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ عَلَى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إِلَى آخرها، ثُمَّ يتبع ذلك أصلان عظيمان:
    أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
    والثاني: تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.
    فأعرفُ النَّاسِ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، ولهذا سمى الله ما أنزله عَلَى رسوله روحاً، لتوقف الحياة الحقيقة عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فَقَالَ تعالى:((يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [غافر:15] وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ))[الشورى:52-53] فلا روح إلا فيما جَاءَ به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ))[فصلت:44] فهو وإن كَانَ هدىً وشفاءً مطلقاً، لكن لما كَانَ المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر. ا. هـ]

    الشرح:
    بعد أن ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أهمية العلم بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نبه إِلَى الأصل العظيم، وبداية انحرافات الفرق جميعاً التي تنتهي بها إِلَى الضلالة والهاوية.
    وهي كيفية معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟

    إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، أما الإدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في الفطرة، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخذ الميثاق الفطري ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30] -وسيأتي بحثها عما قريب- وهي موجودة لكنها لا تعطي معرفة تفصيلية، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي.
    وأما العقول والأذهان فلا تستقل بمعرفة ذلك، ولهذا تخبطت الفرق الإسلامية تخبطاً شديداً لما اتبعت آراء المتخرصين المتهوكين بعقولهم.
    والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحي ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء:45] فنذارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وهذا الذي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به وكرمنا به، ثُمَّ إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] فالوحي محفوظ ومعصوم، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا نبحث عن مصدر آخر غير هذا الوحي، وإلا فالضلال والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن خرج عن منهج السلف الصالح.
    نهاية إقدام العقول عقــال            وغاية سعي العالمين ضلال
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
    فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع الأقوال والردود، وقال الحكماء، وقال فلان، ورد عليه فلان وفلان.
    لا يصل أبداً إِلَى اليقين والحقيقة؛ لأن هذا الدين ليس مما يدرك بالنظر والعقول، وليس مما تنفرد به الأفهام والأذهان، وإلا لو كَانَ كذلك لما احتيج للأنبياء.
  5. حاجة الناس إلى الأنبياء والرسل

    الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث الأَنْبِيَاء ليبينوا ذلك التوحيد، وجعله مفتاح دعوة الرسل يدعون أول ما يدعون إِلَى معرفته وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يستحقه عَلَى العباد من أنواع الطاعات والتعبدات، فلا تستقل العقول ولا تنفرد بمعرفة هذا، ودلائل ذلك من الواقع أكثر من أن تحصر.
    فأيام اليونان كانت هناك نظريات عقلية بلا دين، فلما جَاءَ المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة كـابن سينا وابن رشد والفارابي والكندي نقدوا تلك النظريات وأبطلوا كثيراً منها، وأضافوا إليها إضافات هي صحيحة بالنسبة لباطل أولئك.
    ثُمَّ جاءت النهضة الأوروبيه أو عصر التنوير - كما يسمى- في القرن السادس عشر والسابع عشر، فظهرت نظريات جديدة، ومنها النظريات القديمة سواء ما أضافه المنتسبون إِلَى الإسلام أو نظريات أرسطو وأفلاطون.

    ثُمَّ جَاءَ القرن التاسع عشر فظهرت المذاهب التي تسمى المذاهب الوضعية، وفي القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر حداثة وأكثر ردة، فيا سُبْحانَ اللَّه!!
    وكما قال بعض السلف رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم: "من جعل دينه عرضة للهوى أكثر التنقل".

    ويكفينا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف:51] فأي نظرية غيبية تتحدث عن نشأة الكون، أو ما يتعلق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو نشأة الإِنسَان عَلَى هذه الأرض، وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟!
    هي باطلة من وضع المضلين الذين لم يشهدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق السماوات والأرض، ولم يشهدهم خلق أنفسهم فضلاً عن أن يشاركوه في ذلك، فهم مضلون، أضلوا بني الإِنسَانية وأضلوا أهل الديانات القديمة، ثُمَّ أضلوا أهل الإسلام فيما بعد.
    ويسمونهم فلاسفةً وحكماء، وأصحاب العقول الضخمة، وهم لا قدرة لهم في معرفة ذلك إلا بالوحي، وأما ما يفهمه الإِنسَان من الوحي فيما يتعلق بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا مدخل للعقل فيه.
    أما فيما يتعلق بالفروع فللعقول مدخل عليه، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزل هذا القُرْآن للتدبر والفهم والاستنباط، وكذا المعارف الدنيوية، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوكل أمرها إِلَى الإِنسَان نفسه وسمح له وأفسح له المجال أن يعمل ويكدَّ فيها ويتعلم.
    وأما ما يسمى بالعلوم الإِنسَانية أو النظريات الكونية (النظريات الإِنسَانية) فهذه لا يجوز للمسلم أن يستمد منها شيئاً
    .
  6. أصول المعرفة الكلية

    فالأصول ثلاثة:
    معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ومعرفة الطريق الموصل إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ومعرفة العاقبة والمآل لمن أطاع الله ولمن عصاه، وهذه أساس المعرفة بالآخرة.
    فالمعرفة الكلية تشتمل عَلَى هذه الأصول والأقسام الثلاثة، وأولها وأشرفها: معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  7. فائدة في كلمة المعرفة

    كلمة المعرفة ينكرها بعض الناس؛ لأن الصوفية يسمون الإِنسَان الذي بلغ عندهم درجةً ما "العارف"، وهذا المصطلح غريب عَلَى الإسلام.
    لكن معرفة الله ليست غريبة؛ بل وردت في الحديث الصحيح في إحدى روايات حديث معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليمن قَالَ: {فإذا هم عرفوا الله فأنبئهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات} والشاهد أن هذه اللفظة في ذاتها لا غبار عليها، وإنما الخطأ في إطلاق كلمة العارف في المصطلح المتداول عند الصوفية، فالدرجات عندنا: مسلم ثُمَّ مؤمن ثُمَّ محسن.
    وهناك صفات أخرى وهي: المتقون، المفلحون، الفائزون، إِلَى آخره وليس فيها ولا منها العارفون.
    فمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي الأصل الأول من أصول المعرفة ثُمَّ معرفة الطريق الذي يوصل إِلَى رضا وطاعة الله وهو حقيقة الشريعة، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
    فنعرف أولاً: التوحيد.
    ثُمَّ نعرف ثانياً: الفقه والشريعة -أي: معرفة الحلال والحرام-.
    ثُمَّ نعرف ثالثاً: مصيرنا، فنعرف أخبار الآخرة وما يتعلق بها، وما هو حالنا عند الموت وبعده، وما هو حالنا في العالم الآخر.
    فمن عرف هذه الثلاث اكتملت معرفته الضرورية في معرفة دينه، وهي وإن كانت -أي: معرفة أخبار الآخرة، وما يتعلق بها- مما لا يتعبد بها عملاً لكنها مما ينبغي معرفتها اعتقاداً.

    قَولُ المُصنِّفِ رحمه الله تعالى: ولهذا سمى الله... إلخ.
    الإشارة هنا "ولهذا" تعود إِلَى التعليل، والغرض من التعليل إثبات أن العقول لا تستقل بمعرفة الله وأنه يلزم أن تكون تابعة للشرع، ولهذا سَمّى الله ما أنزله عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ روحاً وسماه نوراً، وسماه شفاءً.